«لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا»
د. عائض القرني
هذه الكلمة الجميلة الشجاعة قالها (صلى الله عليه وسلم) وهو في الغار مع صاحبه أبي بكرٍ الصديق وقد أحاط بهما الكفّار، قالها قويةً في حزمٍ، صادقةً في عزمٍ، صارمةً في جزمٍ: لا تحزن إن الله معنا. فما دام الله معنا فلِمَ الحزن؟ ولِمَ الخوف؟ ولِمَ القلق؟ اسكنْ، اثبتْ، اهدأْ، اطمئنَّ؛ لأنّ الله معنا. لا نُغلب، لا نُهزم، لا نضلّ، لا نضيع، لا نيأس، لا نقنط؛ لأن الله معنا. النصر حليفنا، الفرج رفيقنا، الفتح صاحبنا، الفوز غايتنا، الفلاح نهايتنا؛ لأن الله معنا. لو وقفتِ الدنيا كلّ الدنيا في وجوهنا، لو حاربنا البشر كلّ البشر، ونازلنا كلُّ مَن على وجه الأرض، فلا تحزن؛ لأنّ الله معنا. مَن أقوى منّا قلباً؟ مَن أهدى منّا نهجاً؟ مَن أجلّ منّا مبدأً؟ مَن أحسن منّا مسيرةً؟ مَن أرفع منا قدراً؟ لأنّ الله معنا. ما أضعفَ عدوَّنا! ما أذلَّ خصمَنا! ما أحقرَ مَن حاربنا! ما أجبن مَن قاتلنا! لأنّ الله معنا. لن نقصد بشراً، لن نلتجئ إلى عبدٍ، لن ندعوَ إنساناً، لن نخاف مخلوقاً؛ لأنّ الله معنا. نحن أقوى عدةً، وأمضى سلاحاً، وأثبتُ جَناناً، وأقوم نهجاً؛ لأنّ الله معنا. نحن الأكثرون الأكرمون الأعلون الأعزّون المنصورون؛ لأنّ الله معنا. يا أبا بكرٍ! اهجرْ همّك، وأزلْ غمّك، واطردْ حزنك، وانسَ يأسك؛ لأنّ الله معنا. يا أبا بكر! ارفعْ رأسك، وهدّئْ من روعك، وأرحْ قلبك؛ لأنّ الله معنا. يا أبا بكر! أبشرْ بالفوز، وانتظر النصر، وترقّب الفتح؛ لأنّ الله معنا. غداً سوف تَعلو رسالتنا، وتَظهر دعوتنا، وتُسمع كلمتنا؛ لأنّ الله معنا. غداً سوف نُسمع أهلَ الأرض روعةَ الأذان، وكلامَ الرحمن، ونغمةَ القرآن؛ لأن الله معنا. غداً سوف نُخرج الإنسانيّة، ونحرّر البشريّة من عبوديّة الوثنيّة؛ لأن الله معنا. هذه كلماتٌ قالها رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي بكر الصديق وهما في الغار وقد أحاط بهما الكفار من كل ناحية، وطوّقهما الموت من كل مكان، وأُغلقت الأبوابُ إلا باباً واحداً، وقطعت الحبالُ إلا حبلاً واحداً، وعزّ الصديق والقريب، وغاب الصاحب والحبيب، وعجزت الأسرة والقبيلة، وبقي الواحد الأحد الفرد الصمد، حينها قالها عليه الصلاة والسلام: (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا). لا تحزن، إن الله معنا. إذن معنا الركن الذي لا يُضام، والقوة التي لا تُرام، والعزة التي لا تُغلب. وما دام الله معنا فمِمّنْ نخاف؟ ومن نخشى؟ ومن نرهب؟ فهو القوي العزيز، وهم الضعفاء الأذلاّء، ما دام الله معنا فلا تأسفْ على قِلّةٍ من عدد، أو عوزٍ من عتاد، أو فقرٍ من مال، أو تخاذلٍ من أنصار.
إن الله معنا وكفى، معنا بحفظه ورعايته، بقوته وجبروته، بكفايته وعنايته، وإن أعظم كلمة في الخَطْب وأشرف جملة في الكرْب هي هذه الكلمة الصادقة الساطعة: لا تحزن إن الله معنا. وسرّ هذه الكلمة في مدلولها وعظمتها في معناها يوم تذكر معية الله ـ عزّ وجلّ ـ وهو الذي بيده مقاليد الحكم، ورقاب العباد، ومقادير الخلق، وأرزاق الكائنات.
وهذه الكلمة في زمانها الذي قِيلت فيه، وفي جوّها المخيف المرعب، وفي مكانها المزلزل المذهل لها طعمٌ آخرُ وقصةٌ أخرى. لقد جاءت في لحظةٍ طُوِّق فيها على المعصوم وصاحبه في الغار، وأغلق الباب، وأحاط الأعداء بكلّ جانب، وسلّوا سيوف الموت، يريدون أشرف مهجةٍ عُرِفتْ، وأزكى نفسٍ وُجدتْ، وأطهر روحٍ خُلقتْ، فما الحيلة؟ الحيلة رفع ملفّ القضية، وأوراق الفاجعة، وسجلّ الكارثة إلى مَن على العرش استوى؛ ليقضي فيها بما يشاء، ولكن صاحب الرسالة ذا القلب المشرق الفيّاض أرسل لصاحبه أبي بكر رسالةً رقيقةً هادئةً حانيةً نَصّها: لا تحزن، إن الله معنا، فصار الحزن سروراً والهمّ فرجاً، والغمّ راحةً، والكرب فرجاً، والهزيمة نصراً عزيزاً.
* ظنّوا الحَمامَ وظنّوا العنكبوت على - خير البريّة لم تنسجْ ولم تحمِ
* عنايةُ الله أغنتْ عن مضاعفةٍ - من الدروعِ وعن عالٍ من الأطُمِ وكلمة «لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا» يحتاجها المسلم كلّ آن؛ فإذا تكاثف همّك، وكثر غمّك، وتضاعف حزنك فقلْ لقلبك: (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا). وإذا غلبك الدَّين، وأضناك الفقر، وشواك العدم، فقل لقلبك: (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)، وإذا هزّتْك الأزمان، وطوّقتْك الحوادث، وحلّت بك الكُرُبات، فقل لقلبك: إن الله معنا.
اللهمّ أمّن خوفنا، وأنزلْ علينا سكينةً تثبّتُ بها قلوبَنا، وتزيل بها همومنا وغمومَنا